كتب: د. عاطف معتمد
لو طرحت سنة 921 م حينما وصل ابن فضلان إلى بلاد البولجار من تاريخ اليوم ستحصل على رقم 1100 سنة.
في هذه البقعة التي أخذت منها الصورة المرفقة تم تشييد أول مسجد في هذه البلاد بعد قبول حاكم الإقليم للدين الإسلامي وفق الرسالة التي جاء بها ابن فضلان مبعوثا من الخليفة العباسي المقتدر بالله.
بالطبع المساجد الفخيمة التي تبدو في الصورة ليست هي المساجد الأولى التي شهد ابن فضلان وضع لبناتها قبل 1100 سنة بل هذه مساجد تأسست حديثا جدا لأسباب جيوسياسية، أي أسباب جغرافية وسياسية، وسأعرضها لك في السطور التالية كمدخل افتتاحي للموضوع الشيق.
حينما تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 سعت جمهوريات ومناطق إدارية عديدة إلى الانفصال عن روسيا أسوة ببقية الجمهوريات التي كانت قد انضمت للاتحاد السوفيتي.
واحدة من تلك الجمهوريات (الشيشان) اختارت مسارا مسلحا انفصاليا لوقوعها على التخوم الجنوبية ولأسباب عديدة شرحناها في مقال قبل يومين حينما غررت بها بعض دول المركز الإسلامي والولايات المتحدة وبعض عناصر في الداخل الروسي.
استمرت تلك الحرب عشر سنوات دامية وانتهت بإخضاع الشيشان في حرب أكلت الأخضر واليابس.
في تلك الأثناء كانت هناك جمهورية أخرى هي “تترستان” تطالب بالاستقلال نظرا لما لديها من مقومات قيام دولة منفصلة عن روسيا، خاصة أن هذه الجمهورية من أغنى الجمهوريات في البلاد.
في عهد بوريس يلتسين ثم في عهد فلاديمير بوتين تم اللجوء إلى الخيار التفاوضي وهو أن تمنح تترستان امتيازات كبيرة من الميزانية الفدرالية شريطة أن تبقى ضمن سلطة “الاتحاد الروسي” وهو الاسم الصحيح للترجمة الخاطئة التي نقولها عن روسيا حين نسميها “روسيا الاتحادية” فالاسم الصحيح هو “الاتحاد الفدرالي الروسي”.
يقوم النظام الفدرالي على منح صلاحيات عديدة للجمهوريات، فتترستان مثلا لديها رئيس للجمهورية ومجلس وزاري (التقيت مثلا مع سفير بلادنا في موسكو في عام 2015 مع وزير الثقافة في هذه الجمهورية ضمن فعاليات نشاط ثقافي مشترك مع مصر، وهو وزير ثقافة للجمهورية غير وزير ثقافة عموم الاتحاد الروسي).
أي ان الجمهورية تتمتع (بشكل عام) بمزايا الحكم الفدرالي الذي يستثني منها التمثيل الدبلوماسي الخارجي أو شؤون الدفاع والجيش.
ملف تترستان شائك شائق، ويحتاج إلى مجلدات كي نوفيه حقه، لكن بخصوص الصورة المرفقة فإن ما نراه هو جزء من إعادة إحياء مدينة بولجار الإسلامية التاريخية التي كانت واحدة من أهم المراكز الحضارية في تلك البلاد قبل 1100 سنة.
وبما أني زرت هذه المدينة في الصيف فقد وجدتها قبلة للسياحة الوطنية من أبناء الجمهورية الذين يشعرون بفخر ديني وقومي تجاه تاريخهم في هذه البلاد.
تجمع تترستان كما ألمحنا بين هويتين:
– هوية إسلامية اختارتها رسميا في عام 921 مع رحلة ابن فضلان (وإن كان الإسلام قد وصل هنا قبل ابن فضلان بعدة قرون بشكل روحي وعبر التجار وليس عبر بعثات دبلوماسية)
– هوية قومية باعتبار أن لسكان الإقليم تكوين عرقي وقومي مختلف عن العرق الروسي.
لو تحدثنا بلغة المفاوضات البراغماتية فإن التدمير الذي شهدته الشيشان في العشرية السوداء حتى عام 2000 قد انعكس على تترستان إيجابا كما انعكس على بقية الجمهوريات ذات المقومات الانفصالية.
صحيح أنه اليوم عادت جروزني العاصمة الشيشانية إلى بنية عمرانية حديثة وعمائر عصرية إلا أن ذلك حدث بعد أن دمرت الحرب كثيرا من المقومات البشرية في تلك الجمهورية.
تترستان لم تشهد حربا (والحمد لله)، واستفادت نسبيا من الضغط الذي سببته المشكلات الانفصالية في الشيشان فشهدت نهضة عمرانية وتنموية، أخذا في الاعتبار أن أبناء هذه الجمهورية يرون هذه النهضة “مستحقة” وهي جزء من إمكانات بلادهم التي يجب أن تعود عليهم.
بولجار إذن التي تظهر مساجدها في الصورة المرفقة مدينة إسلامية أعيد ترميمها خلال العقدين الماضيين فقط.
والمساجد التي تراها في الصورة هنا تحاكي بشكل أو بآخر مجمع تاج محل في الهند وهو اختيار بالغ الدلالة والتوفيق.
لا أستطيع ان أقول لك إن بولجار مدينة عامرة بأرواح زمن ابن فضلان، فهي مدينة تأسست بإنفاق باذخ لاستعراض الفخر القومي والديني والتأكيد على أن موسكو تدعم الهوية القومية والدينية لشعوب تلك الجمهورية.
دعونا نبدأ الحكاية من اولها:
في عام 921 ميلادية (309هـ) خرجت من بغداد بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسي “المقتدر بالله” إلى قلب القارة الآسيوية فى مكان عُرف وقتها باسم “أرض الصقالبة”؛ تلبية لطلب ملكهم في التعريف بالدين الإسلامي، تألفت السفارة من فقهاء ورجال دولة ومؤرخين، وفي مقدمتهم كان أحمد بن فضلان الذي اختاره الخليفة لخبرته الواسعة.
حينما عبَّرت هوليود عن اختيار الخليفة العباسي لأحمد بن فضلان في الفيلم الشهير “المحارب الثالث عشر” غمزت إلى أن الخليفة أراد أن يقتنص زوجته الجميلة ويضمها لحريمه فتخلص من ابن فضلان في بعثة مهلكة لا عودة منها.
وبعيدا عن خيال الإغراء والإغواء الاستشراقي لهوليود تشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن قيصر البولجار “ألموش بن يلطوار” أرسل للخليفة المقتدر بالله طلبا بإرسال سفارة إلى القيصرية البلجارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، وهنا جاء الاختيار على رجل يجمع بين الفقه والحكمة “احمد بن فضلان”.
خرجت القافلة من بغداد مرورا بالمدن الفارسية ومنها إلى نهري جيحون وسيحون، وصولا إلى خوارزم وبلاد الأغوز التوركية.
فشل ابن فضلان في تحصيل الأموال التي أمره الخليفة بجمعها من مدن خوارزم لتلبية طلب قيصر البلغار وفقد الموكب رجاله بين البرد والمرض، وبدا أن الأجدى العودة إلى بغداد، وهناك سيقع لا محالة العقاب الواجب بأمراء خوارزم وسمرقند وبخارى الذين رفضوا دعم البعثة بالأموال اللازمة.
وفي منطقة الانتقال بين خوارزم وبلاد التورك في أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هي السماح بالجلوس إلى النار ليصطلي، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولي فكرة التكيف المناخي.
وفي خط المسير يبدأ ابن فضلان في مواجهة أول أسئلة البيئة الوثنية حينما يسأله رجل:
“قل لربك ما الذي يريده منا لكي يرفع عنا هذا البرد؟
فيجيبه ابن فضلان: يريدكم أن تقولوا: لا إله إلا الله
فيجيب الرجل: لو علمنا أن ذلك سيجدي لقلناها”.
ثم يسأله بعض أهل تلك البلاد: “ألربنا امرأة؟”، فيستعظم ابن فضلان الأمر، ويستغفر الله ويعظمه، ويردد التركي خلفه الاستغفار والتعظيم في محاولة للاعتذار.
وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضي البلجار يلاقي ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول:
“ورأينا أقوامًا تعبد الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب… إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضي كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا”.
إذا كنت تعرف جغرافية المنطقة ستصيبك الدهشة وانت تتابع تلك الأحداث وتسأل نفسك:
لماذا اختار ابن فضلان هذا الطريق الوعر وتلك المشكلات الكثيرة عبر خوارزم والأوغوز ولم يختر الطريق المختصر عبر بحر قزوين وصولا إلى البولجار بشكل مباشر؟.
في المقال المقبل نحاول الإجابة ونرسم خريطتين للتوضيح.