حافظ إيمانويل ماكرون، كما كان متوقعًا من قبل، على مفاتيح قصر الإليزيه، فقد اُنتخب لمدة 5 سنوات أخرى لحكم فرنسا، لكن ما يلفت الانتباه في هذه الانتخابات، النتائج المهمة التي أحرزتها مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، مقارنة بالانتخابات السابقة، رغم القصف الإعلامي الممارس ضدها من جبهات كثيرة، والحشد الكبير الذي دعم ماكرون.صحيح أن لوبان فشلت للمرة الثانية على التوالي في الوصول إلى سدة الحكم بفرنسا، إلا أنها هذه المرة حققت نتائج كبيرة، فقد حصلت على 41.8% من الأصوات أمام الفائز إيمانويل ماكرون الذي حصل على 58.2% من الأصوات وفق التقديرات الأولية.وبلغت نسبة المقاطعة والامتناع عن التصويت خلال هذا الدور من الانتخابات الفرنسية نحو 25.8% من المسجلين في القوائم الانتخابية، فيما بلغت نسبة التصويت الأبيض والأصوات الملغاة نحو 11.5% من مجموع المصوتين.
يذكر أنه في انتخابات 2017، لم تحرز مارين لوبان إلا 33.9% من جملة الأصوات، فيما أحرز منافسها ماكرون 66%، أي أنها قلصت الفارق بينهما من 32 نقطة إلى 16 نقطة فقط، ما يعتبر إنجازًا كبيرًا في مسيرة اليمين المتطرف.أثبتت الانتخابات الأخيرة أن قرابة نصف الناخبين الفرنسيين يحملون أفكارًا يمينيةً متطرفةً.في سنة 2012، لم تتمكن لوبان من الوصول للدور الثاني من الانتخابات واكتفت بالمرتبة الثالثة بحصولها على 17.90% من أصوات الناخبين الفرنسيين، وذلك بعد 10 سنوات من المفاجأة التي حققها والدها جان ماري لوبان في 2002 بمروره إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.أثبت نتائج أمس الأحد تمكن لوبان من تحقيق إنجاز تاريخي غير مسبوق لحزب التجمع الوطني ولليمين المتطرف ككل، ما يدعم وجود حزبها في الساحة السياسية الفرنسية، فمع حصولها على أصوات أقل من نصف الناخبين الفرنسيين بقليل، تمكنت المرأة التي نشأت في ظل والدها جان ماري لوبن مؤسس أحد أحزاب اليمين المتطرف الأقوى في أوروبا، من فرض نفسها بشكل دائم على المشهد السياسي الفرنسي.واعتبرت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف أن ما حصدته من أصوات في الانتخابات الرئاسية يشكل “انتصارًا مدويًا”، ووعدت بمواصلة مسيرتها السياسية، مشددة على أنها “لن تتخلى أبدًا عن الفرنسيين”، ومؤكدة أن “النتيجة تشكل انتصارًا مدويًا”.قالت أمام حشد من مناصريها: “الأفكار التي نمثّلها اتخذت أبعادًا جديدةً (…) هذه النتيجة في ذاتها تشكل انتصارًا مدويًا”، وتابعت “هذا المساء، نبدأ المعركة الكبيرة من أجل الانتخابات التشريعية”، مشيرة إلى أنها شعرت بالأمل ودعت معارضي الرئيس للانضمام إلى حزب التجمع الوطني الذي تتزعمه.هُزمت لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لكنها أوصلت اليمين المتطرف إلى أبواب السلطة، مع أعلى نسبة أصوات في انتخابات رئاسية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لم يسبق لأي حزب من أقصى اليمين في فرنسا أن حقق مثل هذه النتيجة في انتخابات وطنية.وحققت لوبان ضعف النتيجة التي حققها والدها، الزعيم التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبن في سنة 2002 في مواجهة جاك شيراك، وأصبح اليمين المتطرف بذلك متفوقًا على اليسار بكل أطيافه، ما يعني تغيرًا في الخريطة الانتخابية وأيضًا في المزاج العام للناخبين، في ظل مستويات قياسية للمقاطعة لم تكن مألوفة من قبل، ولولا تكتل أغلب المرشحين إلى جانب ماكرون ودعوتهم أنصارهم لقطع الطريق أمام لوبان لكان اليمين المتطرف في قصر الإليزيه الآن. لو تحققت هذه النتائج سنة 2017، لقلنا حينها إن المد الشعبوي أثر على المزاج العام للناخب الفرنسي مع وصول دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وتصويت اليمين البريطاني على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وساهم في رفع حظوظ اليمين المتطرف الفرنسي للمنافسة على الحكم.لكن هذه السنة، عرفت عمومًا تراجع الشعوبية واليمين المتطرف نتيجة تأثيرات وباء كورونا وحالات الإغلاق العام، وأيضًا الحرب الروسية ضد أوكرانيا التي خدمت ماكرون كثيرًا وأرجعته للسباق بعد تراجع شعبيته.يعني هذا الأمر، أنه رغم تأثيرات كورونا والحرب ضد أوكرانيا، تمكن اليمين المتطرف في فرنسا من حصد نتائج مهمة في الانتخابات الرئاسية التي عقدت أمس، أي أنه في تمدد متواصل وله أن يصل لقصر الإليزيه في الانتخابات القادمة. أثبتت الانتخابات الأخيرة أن قرابة نصف الناخبين الفرنسيين يحملون أفكارًا يمينيةً متطرفةً، وأنهم يميلون إلى الخطاب الشعبوي الذي يضع على رأس هرم أيديولوجيته مناهضة المهاجرين والمسلمين والأقليات عمومًا، بجانب تعزيز القوميات والضرب بشعارات الحضارات وقبول الآخر عرض الحائط.أثبتت الانتخابات أن لوبان تمكنت من إقناع قسم كبير من الفرنسيين بصواب سياساتها المرتكزة على منع الهجرة إلى فرنسا وتصعيد المواجهة مع المسلمين ومحاصرتهم، ما يعني أن فرنسا ستكون أمام موعد جديد لتصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا، والعداء للمهاجرين وطالبي اللجوء، خاصة أن ماكرون أظهر هو الآخر عداءه الواضح للمسلمين والمهاجرين.كانت أفكار اليمين المتطرف تغري في البداية أولئك الذين يعتقدون خطأ أن الأجانب لا سيما العرب والمسلمين هم سبب أهم مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية، لكنه اليوم أصبح يغري الشباب وشرائح اجتماعية كانت تصوت من قبل لأحزاب اليسار واليمين التقليدي.يُذكر أن زعيمة اليمين المتطرف تعتمد منذ وصولها إلى رأس حزبها عام 2011 خلفًا لوالدها، خطابًا مناهضًا للمهاجرين، وتتخذ من العنصرية والفاشية خطًّا لها، ومن كراهية الأجانب الملونين، من مسلمين وغيرهم، رأسمالها الثابت الذي لا يتغير رغم مرور السنين.تداعيات نتائج لوبان لن تقتصر على فرنسا فقط، وإنما ستمتد نحو أوروبا، فمن المتوقع أن تستفيد الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية الأخرى من هذا الصعود القومي الفرنسي، ومن النجاحات المهمة التي راكمها حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان.ارتدادات صعود اليمين المتطرف الفرنسي قد تحدث زلزالًا سياسيًا من شأنه أن يمس دولًا أوروبيةً عدةً على غرار ألمانيا في ظل فشل الحكومات الأوروبية في إيجاد حلول للمشكلات المزمنة التي تعاني منها بلادها، وعلى رأسها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.وبجانب حزب الجبهة الوطنية الفرنسية في فرنسا، هناك عدة أحزاب بارزة لليمين المتطرف، تنتشر في دول أوروبا، أبرزها حزب الحريات اليميني المتطرف في هولندا الذي يتزعمه خيرت فيلدرز، والحزب النمساوي اليميني الشعبي والحزب اليميني الشعبي الدنماركي وحزب البديل من أجل ألمانيا الألماني وحزب رابطة الشمال الإيطالية الذي يقود ماتيو سالفيني وحزب القانون والعدالة البولندي الذي يتزعمه ياروسلاف كاتشينسكي.