على الرغم من الظروف التي يمر بها القرن الأفريقي، ومعاناة الملايين من أبنائه للخروج من طاحونة السعي نحو ضرورات الحياة اليومية، في غياب دول قادرة على رعاية الإبداع والثقافة، تبزغ بين الفينة والأخرى ومضات من أمل، عبر مبادرات ثقافية يجتمع حولها المهتمون بالعمل الثقافي والتنمية الاجتماعية، في جهود لا تهدف للربح، وإن سعت إلى الاستدامة، لتكون مبادرة “اقرأ” إحدى أحدث تلك المبادرات، وأشدها لفتاً للاهتمام.
بحثاً عن القوة الكامنة
خلال جولة أخذتنا فيها منى ليبان، الكاتبة العائدة من أستراليا، إلى مركز مبادرة “اقرأ”، وهو عبارة عن منزل كبير في جزء هادئ من حي “جيغجيغا ير” الراقي، حدثتنا عن مبادرتها وما يحيط بها من دوافع وظروف، فقالت “قررت الرجوع إلى موطني في مدينة هرجيسا لتأليف رواية معظم شخصياتها عاشت في هذه المدينة، وما جعلني أعود كان رغبتي في الانغماس بالأجواء الحقيقية التي عاشتها تلك الشخصيات، لأكون صادقة في نقلي جوانبها النفسية والحياتية، ولأنني مسكونة بهاجس ثقافتنا، وجدتني منجذبة للأنشطة الثقافية المقامة في المدينة، ومع الوقت لاحظت اختفاء أحد أوجه النشاط الثقافي بدا لي شديد الحيوية، ما دفعني للعمل على مدى عام كامل لأستطيع خلق نموذج يملأ هذا الفراغ”.
ولدى سؤال ليبان عن ماهية الفراغ الذي تقصده أجابت، “لاحظت غياباً شبه تام لمجالات عدة في التنمية الثقافية، وعلى رأسها رعاية المواهب ونشاط القراءة، لأن القراءة قد تكون اللبنة الأساسية لبناء أفراد مبدعين وواعين، فهي ليست فقط وسيلة للتعرف على تفاصيل ثقافتنا، وكذلك ثقافات الشعوب والأمم الأخرى، بل إنها قد تحرك داخل المبدعين من الأطفال والمراهقين الفضول للتجريب بحثاً عن القوة الكامنة بداخلهم، وعلى مدار العام، يستضيف المقر أكثر من 80 فاعلية وورشة عمل مصممة لمجتمعنا. تشمل بعض البرامج للأطفال والشباب، كبرامج العطلات المدرسية، ونادي القراءة، ودروس الفنون، وجلسات بناء الثقة، ونقدم للكبار محاضرات لتحسين التواصل كفن الخطابة، والكتابة المهنية، والكتابة الإبداعية، ودروس الفن، والمعارض الفنية، والميكروفون المفتوح، لتقديم أعمال الفنانين إلى المجتمع”.
عالم من الإبداع
يقول بكينديد محمد ماح، المحاسب العائد من المملكة المتحدة، بينما يتناول الشاي في ساحة المقر الذي تتناثر فيه ألعاب وتشكيلات فنية تنضح برموز ثقافية محلية محببة، “لفت نظري قبل علمي بالمبادرة وجود نشاط ثقافي في إحدى المكتبات الكبرى هنا أثناء ذهابي لشراء كتب لأبنائي، لقد كان منظر ليبان وهي تجلس وسط الأطفال تقرأ لهم إحدى القصص وقد تفاعلوا معها في غاية الروعة، وفوجئت بأن هذا النشاط الأسبوعي الذي تقوم به مساء كل يوم جمعة في تلك المكتبة تطوعي، وفي الحقيقة فإن ما تقوم به جهد في غاية الأهمية، فالأسر اليوم تعاني كثيراً نتيجة تخلي المدارس عن دورها في زيادة اهتمام الأطفال بالقراءة، سواء هنا أو في الدول الأكثر تقدماً، وهو ما يجعلني أكثر حماساً لإحضار أطفالي للمشاركة في الأنشطة المتنوعة التي يقوم بها المركز”.
ويبدي عبد الحكيم آدن عمر، مهندس الاتصالات المقيم في مدينة هرجيسا، دهشته من حجم الأنشطة التي يضمها المركز، مضيفاً، “المنظر الخارجي للمقر يخدع من ينظر إليه، فبمجرد الدخول سترى مساحات تتيح كثيراً من الأنشطة الإبداعية، بدءاً بالمرسم الذي يمكن أن ترى فيه إبداعات فنانين محترفين محليين وأخرى لمراهقين، وأكثر ما لفت نظري لوحات الأطفال، فمنها يمكن تتبع مراحل تطورهم الإبداعي، وهناك قاعة للعمل المشترك يمكن استخدامها للاجتماعات وجلسات العمل المشتركة، إضافة إلى المكتبة التي تعطي الداخل إليها شعوراً بالهدوء والسكينة، فضلاً عن قاعة للدراسة، وأخرى للكمبيوتر. إن ما رأيته كان مدهشاً حقيقة”.
بيئة أصيلة وملهمة
لدى الحديث مع عدد من زوار المركز، قال السيد صالح حسين، رجل الأعمال الأردني المقيم في هرجيسا، “ما لمسته من خلال زيارتي هو الجهد الكبير الذي بذلته القائمة على المشروع، وبحكم انخراطي في المجتمع الصوماليلاندي، يمكنني القول إن المركز فريد من نوعه، ليس فقط على مستوى مدينة هرجيسا، بل يطاول مراكز ثقافية رأيتها في بلدان عدة، ويمكنني أن أختصر ما رأيته من استعدادت بالمركز بأنه يحمل نمطاً أصيلاً مميزاً ومستوى عالياً يستحق الوقوف أمامه طويلاً ودعمه بكل ما هو ممكن”.
ويضيف خضر علي، المهندس البريطاني من أصل صومالي، والعائد للبحث عن فرص تناسب مجال عمله، “لم أكن أتخيل وجود مكان هنا بهذا القدر من الاهتمام بالتفاصيل، فكل ما في المقر يركز على الثقافة الصومالية، ويستفيد من عناصر البيئة في مرافق المبنى، ويهيئ من يزوره لأن يشتعل بالأفكار والنشاط، كما يجعلنا نشعر بما نفتقده فعلاً، ويبعث داخلنا طموحات أجلناها طويلاً، وإن لم أكن استفدت من هذا المركز شيئاً سوى شعوري بالفخر وتصميمي على أخذ مسألة العودة إلى الوطن بجدية أكبر، لقلت إن هذا يكفي إلهاماً لي ولكل من هو بمثل وضعي”.
الاستدامة هم حقيقي
لدى سؤال ليبان عن خططها فيما يخص استدامة المبادرة، أجابت، “أعمل على هذا المشروع منذ قرابة السنة، والمركز يحقق جانباً من أهدافه، ويتقدم بخطى ثابتة، لكنه ما زال إلى حد كبير معتمداً على مواردي الشخصية، وأبحث عن مصادر رعاية لاستكمال جميع مستلزماته كمختبر الكمبيوتر، وعلى الرغم من أن العمل كثير، فإنني واثقة من أننا سننجح في الوصول إلى مرحلة يستطيع فيها المركز الاعتماد على ذاته للاستمرار، لأنه يقدم خدمة للمجتمع أتمنى أن تكون حافزاً لظهور نظائر له في كل حي بجميع مدن القرن الأفريقي، إنني أسعى وأحاول أن أنجح في هذه التجربة، وعلى نجاحها تعتمد آمالي في تنمية ثقافية مستدامة، لأنها ضرورية للنهوض بجودة الحياة في مجتمعاتنا”.
ويعلق زكريا آدم، الباحث في مركز “هرجيسا” للدراسات على ما أوردته صاحبة المبادرة قائلاً، “قد يشعر الواحد منا بالقلق على مصير مشاريع ثقافية ذات هدف اجتماعي نبيل مثل هذا المركز، فقد شهدنا مبادرات كثيرة ظهرت ثم خمدت أو اضطرت إلى تغيير طريقة عملها بسبب قلة الدعم أو انعدامه، لكن من خلال ما شهدناه من الجهود الكبيرة لتجسيد المبادرة على الأرض، يمكننا الاطمئنان من جهة على إخلاص القائمين عليها، لكنني أحب أن ألفت النظر إلى ما سمعته من أحد الحاضرين في حديث جانبي حين قال إن من المحزن جداً أن ينشغل القائمون على المشروع بتأمين الموارد لاستكمال عناصر أساسية في مشروعهم، في حين أن الأولى أن تتاح لهم كل السبل ليصلوا إلى أهدافهم القصوى التي تصب في خدمة المجتمع”.