إن الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية منذ اندلاع ما يعرف بثورات الربيع العربي تثير كثيراً من الأسئلة التي تبعث إجابتها على القلق.. وتنبعث من شواهدها الشكوك حول طبيعة تلك الأحداث وأهدافها . . ومقاصد الجهات المحركة لها . . وكذلك الوسائل المستخدمة في تحريكها.. ويلمح المرء وسط تلك التداعيات الخطيرة التي صاحبت تفجر ثورات الربيع العربي ما يمكن تسميته بالحرب غير المباشرة.. وهي نوع جديد من الحروب التي تستهدف إشاعة الفوضى وتعميق الفرقة وترسيخ عوامل النزاع والصراع بين الطوائف و العرقيات لتحقيق إستراتيجية تتفق و المصالح العليا لبعض القوى الإقليمية والدولية.. وتستخدم في هذا السبيل أسلحة ووسائل متعددة تعمل على إثارة الفتنة وزعزعة الأمن وتقويض الاستقرار وتفكيك ثوابت الدولة . . وهي مرتبطة ارتباطا وثيقاً بما يعرف بسياسة الفوضى الخلاقة التي تتبناها الولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وهي السياسة التي تهدف لإعادة صياغة الشرق الأوسط بواسطة قواه الداخلية ومقدراته الذاتية.. وذلك بتقسيم بعض دوله المحورية على أسس عرقية وطائفية ومذهبية بأقل تكلفة أو خسائر.. أي أنها حروب بلا تورط مباشر بالقوات و الأسلحة و المعدات .. كما أنها لا تستدعي إطلاق القذائف وهدم المدن و إثارة الرأي العام العالمي .. وهي ما يطلق عليها بعض خبراء الإستراتيجية .. الحروب الناعمة . ومن أبرز وسائل تلك الحروب و أكثرها استخداما وتنوعاً ما يعرف بالعمليات النفسية وهي أداة من أدوات الصراع الشائعة وقتي السلم و الحرب ، وتعمل في وقتنا الحالي بمنطقة الشرق الأوسط بطاقات هائلة وأموال طائلة .. وقد عرفها البروفيسور الأمريكي “بول لينبارجر” المتخصص في علم النفس بأنها فن استخدام الدعاية و الشائعات و الضغوط النفسية الأخرى لمعاونة الإجراءات السياسية والعسكرية الاقتصادية للدولة أو جهة ما في مواجهة أعدائها ومناهضيها لتحقيق أهداف سياسية وهي تستخدم العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس و الإعلام وعلوم الدين وفنون الثقافة في التأثير على فكر الخصوم بهدف تغيير رؤيتهم وسلوكهم وتوجهاتهم السياسية ، وفضلاً عن استهدافها الجمهور أو الشعب أو فئة خاصة أو طائفة معينة .. إلا أنها تركز هجماتها على مراكز الفكر و التوجيه المتمثلة في النخب السياسية و الشخصيات العامة و القيادات العسكرية و الأمنية للتشكيك في قدراتهم ومقاصدهم وتوسيع دائرة المعارضة لهم و النقد و التهجم عليهم ولعلنا نلمس فيما يدور في مصر حالياً نموذجاً حياً لأسلوب العمليات النفسية التي تدار على مدار الساعة ضد مصر ورموزها وكل من يعارض سياسات التيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها .. ونلمس في الممارسات المتكررة بكل ما تحمله من تحريض و إثارة الهدف من تلك الحملة والمتمثل في إضعاف الجبهة الداخلية وبث حالة من الفوضى وانعدام سيطرة الدولة وتفشي اليأس و القنوط بين أفراد الشعب .. وأخطر ما في تلك الحملة الشرسة هو الضغط النفسي المستمر على الجماهير الداخلية و الرأي العام العالمي من خلال حملات التعريض بالقوات المسلحة و الأجهزة الأمنية و الإدعاء الكاذب عليها بالقمع و التسلط والإفراط في استخدام القوة وممارسة العنف ضد المتظاهرين سلمياً – على حد قولهم – فضلاً عن توجيه الاتهامات الباطلة للقيادات بالفساد واستغلال النفوذ مع تصيد الأخطاء و التهويل منها وتعظيم مخاطر نقاط الضعف بغية التحريض والإثارة .. وتلعب وسائل الإعلام ومنها الحديثة كالإنترنت دوراً رئيسياً وخطيراً في هذا المجال فهي قنوات التواصل مع الجماهير على اختلاف توجهاتها . و أصبحت بحكم ما تتمتع به من تقنية عالية وإبهار مذهل سلاحاً مؤثراً في الفكر و الوجدان .. ويسهل تطويعها وتوجيهها لتكون فاعلة ومؤثرة في يد القائمين على تخطيط وإدارة الحرب النفسية .. فقد أصبح الإعلام بحكم الإتاحة سلاحاً فعالاً .. وبحكم ما يتميز به من بريق و إبهار ناعم .. وهو أيضاً شديد التأثير البالغ في بعض الأحيان حد القتل .وفي مجال العمليات النفسية تبرز الدعاية كأحد الأدوات الجاذبة للجماهير و المثيرة لمشاعرها والدعاية كما يعرفها أستاذ الإعلام والعلاقات العامة الأمريكي “ريتشارد نيلسلون Richard Nelson ” هي منهجية للإقناع الهادف من خلال محاولة التأثير على عواطف وآراء ومواقف وسلوك جمهور مستهدف ، وذلك لخدمة أغراض سياسية أو تجارية أو أيديولوجية والدعاية لا تعرض الحقائق كاملة .. بل تستغل بعض ما يبدو في مضمونها حقيقة وتضيف إليه من خلال الصياغة الكلامية أو الصور المصنوعة ما يوحي بمصداقية المضمون .. حتى أن بعض خبراء العلاقات العامة يطلقون على الدعاية فن الكذب الجميل .. وهي تعمل على تعميق الاستثارة العاطفية لدى المتلقين أكثر من الاستجابة العقلانية .. وتعتمد على الأسلوب التراكمي في إحداث التأثير المطلوب .. كما يبرز ذلك بوضوح في فن الإعلان الذي يعتمد على الدعاية في الترويج والتسويق .. وبعض الدول تطلق على سياساتها الدعائية فن الإعلام لتفادي المفاهيم السلبية التي يتركها معنى الدعاية لدى الجمهور .. و الدعاية في مجال السياسة تهدف إلى تجميل القبيح .. أو التنفير من بعض الشخصيات أو السياسات .. ولكنها في نهاية الأمر أداة فاعلة من الأدوات المستخدمة في مجال السياسة و السياسة المضادة .. سواء في وقت السلم أو وقت الحرب.وتأتي الشائعات باعتبارها أهم وأخطر أحد طرق العمليات النفسية .. خبر أو قصة أو حدق مختلق لا أساس له أو وجود في الواقع .. وتدور حول فرد أو جماعة أو حدث .. ويتم نشرها إما بواسطة مجموعة من الأشخاص المدربين و المندسين بين الجمهور المستهدف .. أو عبر وسائل الإعلام و التواصل الاجتماعي دون اهتمام بصحتها أو التأكد من مصدرها .. وتنتقل الشائعة من شخص لآخر عبر الكلمة دون الحاجة لبرهان أو دليل يؤكدها .. وتنتشر الشائعات في أوقات الأزمات والكوارث و الحروب .. كما يزداد انتشارها في حالة وجود عدم شفافية أو تعتيم إعلامي من قبل الأجهزة المعنية بالدولة .. أو انعدام الثقة من قبل الجماهير في مصادر الدولة القائمة على الإعلام و المعرفة .. وأهداف الشائعات كثيرة من أهمها هو تحطيم الروح المعنوية وإثارة الشك. وهناك سلسلة أخرى من أدوات العمليات النفسية تعرف بالأنشطة الهدامة يأتي في مقدمتها أعمال التجسس وهي مجال عمل الجواسيس والعملاء سواء كانوا من داخل الدولة أو خارجها .. وهم يعملون إما لصالح جهة أو طرف داخلي أو لصالح دولة أجنبية .. و الهدف الأساسي للتجسس هو جمع المعلومات .. وقد يمتد عمل الجواسيس بحكم خبراتهم وتأهيلهم الخاص ليشمل أعمال التخريب بكافة صورها .. وتتصاعد عمليات الحرب النفسية الهدامة لتبلغ حد الاغتيالات وهو أسلوب يستهدف الرموز الوطنية وأصحاب الفكر الذين يشكل وجودهم عائقاً في سبيل تنفيذ أهداف معينة كما أنه وسيلة لإثارة الرعب و الفزع في المجتمع .. و التشكيك في قدرة الدولة على أداء واجبها الرئيسي في حفظ الأمن و النظام .. وجميع هذه الوسائل تستهدف الإضرار بالدولة ومصالحها الداخلية و الخارجية .. وزعزعة الأمن والاستقرار بها .. وتهيئة الظروف المناسبة لانهيارها وإدخالها في دوامة من الصراعات المحلية تستوجب التدخل الدولي لإعادة صياغة مكونات الدولة ، بما يحقق مصالح القوى الخارجية ، ويتوافق مع مصالح بعض القوى المحلية . وبقى أن ندرك أن تلك الحروب الناعمة وأدواتها السامة التي تجد في الساحة المصرية هذه الأيام مناخاً مناسباً لتحقيق أجندات تآمرية ظاهرة للعيان تستوجب الحرص و الحذر و الوقوف صفاً واحداً متماسكاً ضد كل من يسعى للإضرار بمصر وأمنها القومي .. وهو تحد كبير لا يمكن هزيمته بغير الوعي وقوة الإرادة .. ولن يكون هذا التحدي أصعب مما مرت به مصر من تحديات سابقة .. لعل أقربها للأذهان تحدي الاحتلال الإسرائيلي لسيناء عام 1967 و الذي انتهى بالنصر العظيم في أكتوبر المجيد عام 1973 لتظل مصر كما كانت دوماً .. موحدة الأرض و الشعب .. رغم حقد الحاقدين وكيد المغرضين.